سورة الرعد - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


هذه صفة حالة مضادة للمتقدمة. وقال ابن جريج في قوله {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} إنه روي: إذا لم تمش إلى قريبك برجلك ولم تواسه بمالك فقد قطعته. وقال مصعب بن سعد: سألت أبي عن قوله تعالى: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} [الكهف: 103-104] هم الحرورية؟ قال: لا ولكن الحرورية: {هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض} وأولئك هم الفاسقون، فكان سعد بن أبي وقاص يجعل فيهم الآيتين.
و اللعنة: الإبعاد من رحمة الله ومن الخير جملة. و{سوء الدار} ضد {عقبى الدار} [الرعد: 23] والأظهر في {الدار} هنا أنها دار الآخرة، ويحتمل أنها الدنيا على ضعف.
وقوله: {الله يبسط الرزق لمن يشاء} الآية، لما أخبر عمن تقدمت صفته بأن {لهم اللعنة ولهم سوء الدار} أنحى بعد ذلك على أغنيائهم، وحقر شأنهم وشأن أموالهم، المعنى: أن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره.
وقوله: {ويقدر} أي من التقدير، فهو مناقض يبسط. ثم استجهلهم في قوله: {وفرحوا بالحياة الدنيا} وهي بالإضافة إلى الآخرة متاع ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى. والمتاع: ما يتمتع به مما لا يبقى وقال الشاعر: [الوافر]
تمتَّعْ يا مشعث إن شيئاً *** سبقت به الممات هو المتاع
وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية} الآية، هذا رد على مقترحي الآيات من كفار قريش، كسقوط السماء عليهم كسفاً ونحو ذلك من قولهم: سيَّر عنا الأخشبين واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن، وأحي لنا قصيّاً وأسلافنا، فلما لم يكن ذلك- بحسب أن آيات الاقتراح لم تجر عادة الأنبياء بالإتيان بها إلا إذا أراد الله تعذيب قوم- قالوا هذه المقالة، فرد الله عليهم {قل...} أي أن نزول الآية لا تكون معه ضرورة إيمانكم ولا هداكم، وإنما الأمر بيد الله {يضل من يشاء ويهدي} إلى طاعته والإيمان به {من أناب} إلى الطاعة وآمن بالآيات الدالة.
ويحتمل أن يعود الضمير في {إليه} على القرآن الكريم، ويحتمل أن يعود على محمد عليه السلام. و{الذين} بدل من {من} في قوله: {من أناب} وطمأنينة القلوب هي الاستكانة والسرور بذكر الله. والسكون به كمالاً به. ورضى بالثواب عليه وجودة اليقين.
ثم استفتح عز وجل الإخبار بأن طمأنينة القلوب بذكر الله تعالى.. وفي هذا الإخبار حض وترغيب في الإيمان، والمعنى: أن بهذا تقع الطمأنينة لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم.
و {الذين} الثاني ابتداء وخبره: {طوبى لهم} ويصح أن يكون {الذين} بدلاً من الأول. و{طوبى} ابتداء و{لهم} خبره. و{طوبى} اسم، يدل على ذلك كونه ابتداء. وهي فعلى من الطيب في قول بعضهم، وذهب سيبويه بها مذهب الدعاء وقال: هي في موضع رفع، ويدل على ذلك رفع {وحسن}. وقال ثعلب: {طوبى} مصدر. وقرئ {وحسنَ} بالنصب فـ {طوبى} على هذا مصدر كما قالوا: سقياً لك، ونظيره من المصادر الرجعى والعقبى. قال ابن سيده: والطوبى جمع طيبة عن كراع. ونظيره كوسى في جمع كيسة وضوفى في جمع ضيفة.
قال القاضي أبو محمد: والذي قرأ: {وحسنَ}بالنصب هو يحيى بن يعمر وابن أبي عبلة واختلف في معنى {طوبى} فقيل: خير لهم، وقال عكرمة: معناه نعم ما لهم، وقال الضحاك: معناه: غبطة لهم. وقال ابن عباس: {طوبى}: اسم الجنة بالحبشية، وقال سعيد بن مسجوع: اسم الجنة {طوبى} بالهندية، وقيل {طوبى}: اسم شجرة في الجنة- وبهذا تواترت الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة في الجنة، يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم {وظل ممدود} [الواقعة: 30]» وحكى الطبري عن أبي هريرة وعن مغيث بن سميّ وعتبة بن عبد يرفعه أخباراً مقتضاها: أن هذه الشجرة ليس دار في الجنة إلا وفيها من أغصانها، وأنها تثمر بثياب أهل الجنة، وأنه يخرج منها الخيل بسروجها ولجمها ونحو هذا مما لم يثبت سنده.
و المآب: المرجع من آب يؤوب. ويقال في {طوبى} طيبى.


الكاف في {كذلك} متعلقة بالمعنى الذي في قوله: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} [الرعد: 27] أي كما أنفذ الله هذا {كذلك} أرسلتك- هذا قول- والذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي، لا بالآيات المقترحة. فكذلك أيضاً فعلنا في هذه الأمة: {أرسلناك} إليها بوحي، لا بآيات مقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} قال قتادة وابن جريج: نزلت حين عاهدهم رسول الله عام الحديبية، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن ولا نقرأ اسمه.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول في هذا: أن {الرحمن} يراد به الله تعالى وذاته، ونسب إليهم الكفر به على الإطلاق، وقصة الحديبية وقصة أمية بن خلف مع عبد الرحمن بن عوف، إنما هي إباية الاسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل محمد عليه السلام.
ثم أمر الله تعالى نبيه بالتصريح بالدين والإفصاح بالدعوة في قوله: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} والمتاب: المرجع كالمآب، لأن التوبة الرجوع.
ويحتمل قوله: {ولو أن قرآنا} الآية، أن يكون متعلقاً بقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض- هذا تأويل الفراء وفرقة من المتألين- وقالت فرقة: بل جواب {لو} محذوف، تقديره: ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه، وقال أهل هذا التأويل- ابن عباس ومجاهد وغيرهما- إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً- فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله، وقالت فرقة: جواب {لو} محذوف، ولكن ليس في هذا المعنى، بل تقديره: لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به، وتتضمن الآية- على هذا- تعظيم القرآن، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية.
وقوله: {بل لله الأمر جميعاً} يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين.
وقوله: {أفلم ييئس الذين آمنوا} الآية، {ييئس} معناه: يعلم، وهي لغة هوازن- قاله القاسم بن معن- وقال ابن الكلبي: هي لغة هبيل حي من النخع، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل]
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني *** ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: {ولو أن قرآناً} الآية- على التأويلين في المحذوف المقدر- قال في هذه الآية: أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، علماً منهم {أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً}.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن {يأيس} وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد {أفلم يتبين}.
ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته.
وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد: {ولا يزال الذين ظلموا} ثم قال: {أو تحل} أنت يا محمد {قريباً من دارهم} هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة- وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى {أو تحل} القارعة {قريباً من دارهم}.
وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير: {أو يحل} بالياء {قريباً من ديارهم} بالجمع.
و {وعد الله}- على قول ابن عباس وقوم- فتح مكة، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً. و{وعد الله}: قيام الساعة، و{القارعة}: الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه.
وقوله: {ولقد استهزئ} الآية، هذه آية تأنيس للنبي عليه السلام، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، قد تقدم هذا في الأمم وأمليت لهم أي مددت المدة وأطلت، والإملاء: الإمهال على جهة الاستدراج، وهو من الملاوة من الزمن، ومنه: تمليت حسن العيش. وقوله: {فكيف كان عقاب} تقرير وتعجيب، في ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام.


هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله: {وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إله إلا هو} [الرعد: 30] والمعنى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر؟- هذا تأويل- ويظهر أن القول مرتبط بقوله: {وجعلوا لله شركاء} كأن المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا؟.
و الأنفس من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع. ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه.
وقوله: {قل سموهم} أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر: هل تعلمون الله {بما لا يعلم}؟.
وقرأ الحسن: {هل تنْبئونه} بإسكان النون وتخفيف الباء و{أم} هي بمعنى: بل، وألف الاستفهام- هذا مذهب سيبويه- وهي كقولهم: إنها لإبل أم شاء.
ثم قررهم بعد، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له.
وقرأ الجمهور {زُين} على بناء الفعل للمفعول {مكرُهم} بالرفع، وقرأ مجاهد {زَين} على بنائه للفاعل {مكرَهم} بالنصب، أي زين الله، و{مكرهم}: لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {وصُدوا} بضم الصاد، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا، وفي {صم} المؤمن- بفتحها، وذلك يحتمل أن يكون {صَدوا} أنفسهم أو {صدوا} غيرهم، وقرأ يحيى بن وثاب: وصِدوا بكسر الصاد.
وقوله: {لهم عذاب} الآية، آية وعيد أي لهم عذاب في دنياهم بالقتل والأسر والجدوب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحنهم الله، ثم لهم في الآخرة عذاب {أشق} من هذا كله، وهو الاحتراق بالنار، و{أشق} أصعب من المشقة، والواقي: الساتر على جهة الحماية من الوقاية.
وقوله تعالى: {مثل الجنة} الآية، قال قوم: {مثل} معناه، صفة، وهذا من قولك: مثلت الشيء، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره، وليس بضرب مثل لها، وهو كقوله: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27] أي الوصف الأعلى. ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالاً للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم.
وراجعه عند سيبويه فقدر قبل، تقديره: فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة. وراجعه عند الفراء قوله: {تجري} أي صفة الجنة أنها {تجري من تحتها الأنهار} ونحو هذا موجود في كلام العرب، وتأول عليه قوم: أن {مثل} مقحم وأن التقدير: {الجنة التي وعد المتقون تجري}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود {أمثال الجنة}.
وقد تقدم غيره مرة معنى قوله: {تجري من تحتها الأنهار} وقوله: {أكلها} معناه: ما يؤكل فيها. والعقبى والعاقبة والعاقب: حال تتلو أخرى قبلها. وباقي الآية بين.
وقيل: التقدير في صدر الآية، مثل الجنة جنة تجري- قاله الزجاج- فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5